فصل: وفاة السلطان أبي العباس وولاية ابنه فارس عزوز.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.انتقاض قفصة وحصارها.

كان السلطان أبو العباس قد ولى على قفصة عندما ملكها ابنه الأمير أبا بكر وأقام خدمته من رجال دولتهم عبد الله التريكي من موالي جدهم السلطان أبي يحيى فانتظم به أمره وأقام بها حولا ثم تجافى عن إمارتها ولحق بأبيه بتونس سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة فجعل السلطان أمر قفصة لعبد الله التريكي وولاه عليها ثقة بغنائه واضطلاعه ولم يزل بها واليا إلى أن هلك سنة أربع وتسعين وسبعمائة وولى السلطان مكانه محمدا ابنه وكان له إخوة أصاغر أبنا علات فنافسوه في تلك الرتبة وحسدوه عليها وأغراهم به محمد الدنيدون من قرابة أحمد بن العابد كان ينظر في قسمة الماء بالبلد وكان فيها عدلا معقلا فلم تطرقه النكبة كما طرقت قومه وأبقاه السلطان بالبلد فأغرى هؤلاء الأخوة بأخيهم ووثبوا به فاعتقلوه وأظهروا العصيان ثم حمله أعيان البلد على البراءة من بني عبد الله التريكي استرابة بهم أن يراجعوا طاعة السلطان فتوثب بهم وأخرجهم واستضافهم واستقل برياسة البلد كما كان قومه والسلطان في خلال ذلك يرعد ويبرق ويواصل الأعذار والإنذار وهم قد لجوا في طغيانهم ثم جمع جنوده واحتشد واستألف الأعراب ووفر لهم الأعطيات ونهض إليها حتى نزل بساحتها منتصف خمس وتسعين وسبعمائة وقد استعدوا وتحصنوا فألح عليهم القتال وأذاقهم النكال وقطع الميرة فضيق محنقهم ثم عدا على نخلهم يقطعها حتى صرع جذوعها وفسح المجال بين لفافها.
ولما اشتد بهم الحصار وضاق عليهم المخنق فخرج شيخهم الدنيدن إلى السلطان يعقد معه صلحا على بلده وقومه فغدر به وحبسه رجاء أن يملك بذلك البلد وكان بعض بني العابد واسمه عمرو بن الحسن قد انتبذ عن قفصة أيام نكبتهم وأبعد في المغرب ثم رجع ونزل بأطراف الزاب ولما استقل الدنيدن بقفصة قدم عليه فأقام معه أياما ثم استراب به وتقبض عليه وحبسه فلما غدر به السلطان اجتمعت عليه المشيخة وعقدوا له الإمرة وبعثوا إلى العرب يسترحمونهم ويعطفونهم على ذخيرتهم فيهم وسربوا إليهم الأموال فتصدى إلى الدفاع عنهم صولة بن خالد بن حمزة أمير أولاد أبي الليل وزحف إلى السلطان بمعسكره من ظاهر البلد وكان أولياؤه من العرب قد أبعدوا عنه في الجهات لانتجاع إبلهم فما راعه إلا إطلاق صولة برايته في قومه فأجفل واتبعوه وما زال بكر عليهم في بنيه وخواصه حتى ردهم على أعقابهم وأغذ السير إلى تونس وهو في اتباعه ولم يظفروا منه بعقال إلا ما كان من طعن القنا ووقع السيوف حتى وصل إلى حضرته ثم ندم صولة على ما كان منه وراسل السلطان بطاعته فلم يقبله وانحدر إلى مشاتيه سنة ست وتسعين وسبعمائة.
واستدعى ابن يملول إلى صولة فأغراه بحصار توزر وأنزل معه عليها قومه فجلى الأمير المنتصر ابن السلطان في دفاعهم والامتناع عليهم حتى يئسوا واضطربت آراؤهم وأفرجوا عنها مفترقين وصعد صولة إلى التلال للمصيف به وعاود الرغبة من السلطان في قبول طاعته وكان محمد الدنيدن لما أجفل السلطان عن قفصة تركه بتلك الناحية فلما وصل إلى تونس أرسل أهل قفصة في الرجوع إليهم فأجابه أشياعه ودخل البلد فبدر به عمر بن العابد وكبسه بمكانه الذي نزل به وقتله واستبد بمشيخة قفصة وخشي أهل قفصة من غائلة السلطان وسوء مغبة العصيان فبعثوا إلى السلطان بطاعتهم وشرط عليهم نزول عامله عندهم وهذا ما بلغنا عنهم والله مصرف الأمور بحكمته.

.ولاية ابن السلطان على صفاقس واستيلاؤه منها على قابس وجزيرة جربة.

هذا الأمير عمر ابن السلطان هو شقيق إبراهيم الذي كان أميرا بقسنطينة وكان في كفالة أخيه إبراهيم فلما توفي كما مر لحق بالسلطان أبيه وأقام عنده ولما كان من وفاة أبي بكر بن ثابت شيخ طرابلس ما قدمناه واضطرب قومه من بعده ونزع قائدهم ورئيسهم ابن خلف إلى السلطان فبعث معه ابنه عمر هذا سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة لحصار طرابلس وأقام عليها حولا كريتا يحاصرها ويمنع الأقوات عنها حتى ضجروا وضجر من طول المقامة فدافعوه بالضريبة وانكفأ راجعا إلى أبيه سنة خمس وتسعين وسبعمائة ووافاه جاثما على قفصة عندما انتقضوا عليه وقد مر في طريقه على جربة وأراد الدخول إليها فمنعه عامل أبيه بها من الموالي المعلوجين فأنف من ذلك وشكاه إلى أبيه فولاه على صفاقس ووعده بولاية جربة فسار هو إلى صفاقس وأجاز البحر إلى جزيرة جربة وانضم إليه جميع من بها من القبائل وامتنع العلج منصور العامل بحصنها المسمى بالقشتيل بلسان الفرنج حتى كاتب السلطان فأمره بتمكين ابنه من الحصن والإفراج له عن الجزيزة أجمع فأستبد بها ثم إن الأمير عمر سما إلى ملك قابس فداخل أهل الحامة في ذلك فأجابوه وساروا معه بجموعهم سنة ست وتسعين وسبعمائة فبينها وملكها وقبض على رئيسها يحيى بن عبد الملك بن مكي فضرب عنقه وانقرض أمر بني مكي من قابس واستقل بها الأمير عمر مضافة إلى ما كان بيده والله وارث الأمور.

.وفاة السلطان أبي العباس وولاية ابنه فارس عزوز.

كان السلطان أبو العباس أزمن به وجع النقرس حتى كان في غالب أسفاره يحمل على البغال في المحفة ثم اشتد به آخر عمره وأشرف في سنة ست وتسعين وسبعمائة على الهلكة.
وكان أخوه زكريا رديفه في الملك والمرشح بعده للأمر وابنه محمد واليا على بونة موضع إمارته من قبل وكان للسلطان أولاد كثيرون يتطاولون على أبيهم ويغصون بعمهم زكريا ويخشون غائلته بعد أبيهم فلما قارب السلطان منيته اشتد جزعهم واشفاقهم من عمهم وبعث السلطان كبيرهم أبا بكر بعهده على قسنطينة فسار إليها بين يدي موته واعصوصب الباقون على كبيرهم بعده إلى أبي فارس عزوز فقبضوا على عمهم زكريا وقد دخل يعود أخاه وأودعوه في بعض الحجر ووكلوا به وهلك السلطان لثلاث بعدها فبايعوا أخاهم أبا فارس رابع شعبان سنة ست وتسعين وجاء أهل البلد إلى بيعته أفواجا من الأعيان والكافة تمت بيعته وأمر بنقل ما في بيوت عمه من الأموال والذخيرة إلى قصره حتى استوعبها وضيق عليه في محبسه وقام بتدبير ملكه وسياسة سلطانه وولى بعض إخوته على منابر عمله بأفريقية فبعث أحدهم على سوسة والثاني على المهدية وردف أخاه إسماعيل في ملكه بتونس وأحل الباقين محل الشورى والمفاوضة.
وبلغ الخبر إلى أخيه المنتصر بتوزر فاضطرب أمره ولحق بالحامة فأقام بها وكذلك أخوه زكريا بنفطة فلحق بالجبال بنفزاوة وكان أخوه أبو بكر لما سار إلى قسنطينة لولاية أبيه قبيل وفاته ومر ببونة فلقيه صاحبها الأمير محمد ابن عمه زكريا بما شاء من أنواع الكرامة والمبرة ووافى قسنطينة فطلب منه القائمون بها كتاب السلطان بعهده عليها فأقرأهم إياه وفتحوا له الأبواب فدخل واستولى على أمرها وكان خالصة السلطان أبي فارس عبد العزيز المتولي بالمغرب بعد وفاة أبيه السلطان أبي العباس بن سالم في صفر من شهور السنة وحمله من الهدايا والتحف ما يليق بأمثالها فسار فلما انتهى إلى ميلة بلغه الخبر بوفاة السلطان مرسله وأوعز إليه الأمير أبو بكر من قسنطينة بالرجوع إليه فرجع بهديته واستقر عنده هنالك.
هذا آخر ما بلغنا من الأخبار الصحيحة عنهم لهذه السنين وحالهم على ذلك لهذا العهد والملك بيد الله يؤتيه من يشاء لا رب سواه ولا معبود إلا إياه وهو على كل شيء قدير.